حوار | أفراح ناصر: المشهد قاتم جدًا واليمن يواجه المجهول

تعصف الأحداث المتسارعة باليمن منذ مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح على يد قوات جماعة «الحوثيين»، المُسمّاة «أنصار الله» في بداية الشهر الجاري. وذلك بعد أن أعرب صالح عن الانسحاب من التحالف مع الجماعة  في مواجهة التحالف العربي العسكري بقيادة المملكة العربية السعودية.

ما الذي يعنيه مقتل صالح؟ وكيف نُقدر حجم المأساة الإنسانية في اليمن؟ وما دور الصحفيين اليمنيين في الداخل، والخارج في تغطية هذه الحرب؟ الأسئلة السابقة وغيرها تُجيب عنها الصحفية اليمنية أفراح ناصر، الحاصة على جائزة «حرية الصحافة» هذا العام من لجنة حماية الصحفيين بنيويورك، ورئيسة تحرير «مجلة صنعاء»، في حوار مع «مدى مصر».

أفراح ناصر

مدى مصر:  أنتِ يمنية كَبِرت في عهد صالح، وشاركت في الثورة ضد حكمه في 2011، كيف استقبلتِ خبر مقتله؟

أفراح ناصر: كنتُ مصدومة، مع أني لطالما اعتقدت أن التحالف بين صالح والحوثيين كان مؤقتًا. لم يكن زعيمًا عاديًا، بل قائد صاحب نفوذ واسع. سبق أن شنّ صالح حوالي سبع حروب ضد الحوثيين على مر العقدين الماضيَيْن، وكان الرابح دائمًا. أحد ضحايا تلك الحروب قائد جماعة الحوثيين، حسين بدرالدين الحوثي. ولهذا توقعت أن صالح سيربح هذه المرة أيضًا. لكن ما حدث هو أننا لم ندرك أو قللنا من حجم الإمكانيات العسكرية لدى الحوثيين، التي حصلوا عليها، في الحقيقة، من ذخائر صالح العسكرية. وأظن أيضًا أن الأخير أخطأ الحسابات في تحالفه مع الحوثيين، ولابد أنه لم يتوقع أن ينقلبوا عليه.

في لقائي القصير مع صالح، في بداية الثورة اليمنية في 2011، كان واضحًا بالنسبة لي مدى تمسك هذا الرجل بالسلطة. كان على قناعة تامة بأنه الرجل الحديدي، الذي ليس باستطاعة أحد أن يتغلب عليه أو أن يطيح به أو يزيحه عن الكرسي. أنا متأكدة أن صالح لم يتوقع أبدًا وجود أي قوى تزيحه عن السلطة، لا حركة شبابية شعبية، ولا الحركة الحوثية، ولا السعودية، ولا أي طرف آخر. فبالتالي، بالنسبة لي، كشخص انتمائه الأول، والأخير، إلى الحركة الثورية التي بدأت  قبل ست سنوات، أعتقد أن الحوثيين استطاعوا ما لم يستطع فعله الآخرون. ولكن في نفس الوقت، لجماعة الحوثيين وجه آخر للشر والديكتاتورية، بل وأكثر عنفًا وتطرفًا، حيث تعمل في مسار طائفي وعقائدي.

مدى مصر: ما الأسباب التي دفعت صالح للانسحاب من تحالفه مع الحوثيين برأيك؟

أفراح: بدا صالح في البداية، ومن خلال تصريحات سبقت مقتله، كأنه أكثر قلقًا بشأن الوضع الإنساني المتدهور في البلاد أكثر من الحوثيين، بل ينتقد بشدة الفساد تحت سلطتهم. لكني في الحقيقة أعتقد أن ذلك لم يكن السبب الرئيسي وراء انسحاب صالح من تحالفه مع الحوثيين. السبب الحقيقي كان شعوره بأنهم على وشك أن ينقلبوا عليه، فأدرك أن عليه أن يبادر في الانفصال عنهم أولًا أو كما نقول في العامية العربية «اتغدى بيهم قبل ما يتعشوا بيه».

بكل الأحول لم يكن الحوثيون وصالح على نفس المسار، وإنما تحالفهم كان مؤقتًا ضد التحالف العربي بقيادة السعودية. في مشهد سياسي كهذا، نحن أمام عصابات سياسية مسلحة لا تتحلى بأخلاقيات العمل السياسي المحنك، وإنما تنطلق بمبدأ سياسة حب البقاء والرغبة في احتكار السلطة مهما كلف الثمن. وعليه، أدرك صالح أن جماعة الحوثيين تلهث نحو احتكار السلطة بدوافع أيديولوجية طائفية، فأراد أن يباغتها. ولكنه قُتل.

مدى مصر: ما تداعيات مقتل صالح؟

أفراح: أنا قلقة جدًا حيال المرحلة المقبلة للحملة العسكرية للتحالف العربي بقيادة السعودية. أتصوّر أننا سنشهد تصعيدًا عسكريًا خطيرًا، أشد وتيرة من ذي قبل. حاليًا يتمّ قصف القصر الرئاسي لصالح على ضوء أن الحوثيين يريدون أن يستحوذوا عليه. أتوقع أن الحملة العسكرية ستتسع وتطول وتكون أكثر ضراوة، ليس ضد صنعاء فحسب، بل ضد شمال اليمن كله. نحن بصدد مرحلة جديدة أعنف في مسار الحرب الجارية منذ حوالي ثلاث سنوات. تشير الإحصائيات الحالية بأن هناك أكثر من عشرة آلاف شخص لقوا مصرعهم في الصراع القائم، وبالتالي أتوقع أن يزيد عدد الضحايا بشكل مخيف في الأيام المقبلة.

وهناك مؤشرات أيضًا على أن السعودية ستستثمر اسم نجل صالح، (أحمد صالح المقيم في الإمارات)، في ظل وجود التفاف شعبي على الأرض حول اسمه في الوقت الذي لا يملك الحوثيون ذلك، هم يتمتعون فقط بإمكانيات عسكرية هائلة. وهنا النقطة المفصلية: هل مَن له الشعبية أم صاحب القوة العسكرية مَن سيربح في النهاية؟ يصعب الإجابة على ذلك اليوم، ولكن الوقت كفيل بذلك. المرحلة القادمة من الصراع تتشكل بناءً على الديناميكية الجديدة بين الفصائل اليمنية: الساسة، والرئيس عبدربه منصور هادي، والقبائل والفصائل في الجنوب، وغيرهم. وفقًا للاتفاقات الجديدة سيتحدد مسار الصراع المستقبلي. مثلًا باستطاعة التحالف العربي بقيادة السعودية فقط تزويد هذه الفصائل بالعتاد. لكن حاليًا المشهد قاتم جدًا، فاليمن يواجه المجهول ولا نعرف مَن سيقود البلاد اليوم.

مدى مصر: مَن هم اللاعبون الأساسيون حاليا في اليمن؟

أفراح: هناك ثلاث سلطات أساسية: سلطة في الشمال (متمثلة في التحالف القديم بين صالح والحوثيين) وحاليا الحوثيين، سلطة أخرى في الجنوب (متمثلة في تحالف بين الحراك الجنوبي والسعودية والإمارات) وسلطة في الشرق (متمثلة في تحالف بين مجالس وقبائل محلية).

إلى جانب ذلك، هناك صعود تيار متطرف متمثل في الجماعات الإرهابية كتنظيمات «القاعدة» و«داعش». في الحقيقة الحرب والوضع الأمني المتأزم أنتج عددًا من الجماعات الأُخرى المتطرفة المسلحة أكثر مما كان عليه الوضع قبل الحرب، وساهم بذلك الانقسامات في المصالح بين السعودية والإمارات، فكل طرف يدعم جماعات مسلحة مختلفة وعديدة.

أدرك ذلك جيداً بالرغم من عدم زيارتي للجنوب مؤخرًا. لدي عدد من الزملاء الصحافيين والنشطاء الحقوقيين في الجنوب ممَن كانوا ضحية انتهاكات هذه الجماعات المتطرفة الناشئة بعد اختطافهم واعتقالهم وتعذيبهم وأحيانًا مقتلهم على يد أحد قواتهم. وجريمتهم في نظر تلك التنظيمات في العادة هي ممارسة الصحفيين لدورهم أو النشاط على مواقع التواصل الاجتماعية  أو حتى نشاطات ثقافية على الأرض. ذلك ما حدث مع صديق صحفي لي وأيضًا للناشط الاجتماعي  أمجد عبد الرحمن. وتحضرني قضية أمجد لأن والده كتب لي، مؤخرًا، بعد أن عملت على طرح قضيته في خطابي بمجلس «حقوق الإنسان» في الأمم المتحدة منذ مدة. اُغتيل أمجد من قِبل عضو في إحدى المليشيات المتطرفة في عدن. في الماضي كانت جماعة القاعدة هي مَن يمارس هذا النوع من الإرهاب. أما اليوم فالحرب أنتجت جماعات أُخرى، وهناك «قواعد»، وليس «قاعدة» (تقصد التنظيم) واحدة وحسب.

مدى مصر: كيف يعيش المدنيون بصنعاء في ظل سيطرة الحوثيين على المدينة؟

أفراح: حتى اللحظة، شبكة الإنترنت لم تنقطع في اليمن. لكن الخوف يخيم على أهل صنعاء. العديد منهم يشعرون بخليط من الصدمة والخوف من المجهول في ظل الرقابة من قِبل الحوثيين. من أتواصل معهم يخشون الحديث عبر الهواتف لأنها مراقبة. قوات الحوثيين تقتحم البيوت الموالية لنظام علي عبدالله صالح، وتعتقل العديد من الأشخاص، رجالًا و نساءً. السجون مكتظة ويصعب تحديد عدد المعتقلين، ولكني أخمن أنهم بالآلاف.

لا استطيع الكشف أكثر عما يخبرني به أهلي وأصدقائي في صنعاء حتى لا أعرض حياتهم للخطر. القمع وصل لدرجة أن القوات الحوثية توقف المارة في الشارع وتجري تفتيشًا على هواتفهم، ويتمّ التحقق من آخر مكالمات لهم، وكتاباتهم على مواقع التواصل الاجتماعية. يصعب عليّ أني لا استطيع استغلال ميزة وجودي خارج اليمن حتى أنشر معلومات أكثر عن ما يدور داخل البلد.

مدى مصر: وكيف ينظر المدنيون للعنف الدائر في شمال اليمن؟

أفراح: في كل مرة اتصل فيها بوالدتي في صنعاء أجدها مشغولة بالتحضير للتوجه إلى مآتم عزاء أو أنها عائدة من أحدها. المآتم في كل بيت، لأقرباء لنا أو أصدقاء أو أصدقاء لأصدقائنا وهكذا. الموت والحزن يخيم على كل بيت في اليمن.  والدتي ليست منخرطة في الشأن السياسي، ولكنها دائمًا تسأل: «إذا ما كان المغزى من الحرب في اليمن هو كسر شوكة النفوذ الإيراني فيه، إذا لماذا لا يوجهون مدافعهم صوب إيران، وليس صوب هذا الشعب الفقير المغلوب على أمره؟ لما هذه الحرب بالوكالة؟»

في بداية الحرب كان هناك إصرار على الصمود، ولكن مع تفاقم الوضع الإنساني (من مجاعة وانتشار وباء الكوليرا) وبالتحديد، في بداية نوفمبر، عندما أطلق الحوثيون صاروخ صوب مطار الرياض في السعودية، فشدد التحالف قبضته على اليمن وفرض الحصار الشامل على كل مداخله. أتذكر ذلك اليوم جيدًا، فقد كنتُ متوجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة في حفل استلام جوائز حرية الصحافة العالمية من قِبل منظمة حماية الصحافيين في نيويورك. استيقظت ذلك الصباح على رسالة من والدتي في صنعاء تخبرني فيها: «جميع المداخل الى اليمن أُغلقت. سنموت يعني سنموت». شعرتُ بالعجز والألم، وأنا أفكر في وضع والدتي، وجميع مَن تحت هذا الحصار الخانق. قلبي يعتصر ألمٌ، وأنا أدرك أن هناك ما يقارب من 25 مليون إنسان محاصرين دون أي مجال للهرب. يعيشون مجاعة.. ما هذه الحرب الوحشية.

الوضع الإنساني على الأرض صعب جدًا. لا يوجد طعام أو أدوية أو ماء أو مأوى أو كهرباء أو أي خدمات أُخرى. كل المؤسسات معطلة. العاملين في القطاع المدني، وهم بالملايين، لم يتسلموا مرتباتهم منذ أكثر من سنة. لدي أقارب لم يتسلموا رواتبهم أيضًا، وبالكاد صامدون بالتبرعات.

مدى مصر: ما رأيك كصحفية في التغطية الإعلامية لما يدور باليمن؟

أفراح: ندرك أن الصحافة المستقلة والمعارضة مختفية أو بالأصح مقموعة. هناك عشرات من الصحفيين المختفين قسريًا، منهم الكثير خلف القضبان دون أي تهمة أو محاكمة. في بداية الحرب، ظَهَرَ قائد جماعة الحوثيين عبدالملك الحوثي في خطاب تلفزيوني يقول فيه، «إن المرتزقة والعملاء من فئة الإعلاميين أكثر خطرًا على البلاد من الخونة والمرتزقة الأميين المقاتلين».

أيضًا في جنوب اليمن، هناك إعلام تحت سيطرة وتمويل السعودية والإمارات. ليس هناك مجال للصحافة المستقلة. وبالتالي، إذا ما أراد المواطن اليمني أن يقرأ الصحف ويشاهد القنوات المحلية، سيجد إعلام مشوه، يُخبر القصة من زاوية واحدة فقط. ناهيك عن الاستقطاب الحاد في الإعلام العربي وتغطيتها للحرب. هناك وثائق منشورة على موقع ويكيليكس تأكد مراسلات بين السعودية ومؤسسات إعلامية عربية بخصوص ضغوطات سعودية على تلك الوسائل وطريقة تغطيتها للحرب في اليمن.

وفي الأغلب الإعلام الغربي يتردد في إرسال مراسليه لليمن بسبب خطورة الرحلة وتكاليفها الباهظة. وعليه نجد الصحفيين الغربيين المستقلين هم مَن يغطون الحرب بشكل أكبر، ولكن هذا لا يعني أنه سهل لهم دخول اليمن. صار اليوم من المستحيل أن تسافر لليمن بتأشيرة دخول واحدة، بل بأكثر من واحدة، وحتى إذا ما دخلتَ، فصعب عليك التجول بسهولة داخل البلاد. يتطلب الأمر الكثير من الصبر والمال والتواصل مع جهات عديدة حتى تستطيع أن تنقل الخبر.

مدى مصر: لماذا برأيك زاد اهتمام الإعلام باليمن في الآونة الأخيرة؟

أفراح: لعاملين مهمين. أولًا، أزمة قطر في الخليج لعبت دورًا مهمًا بعد أن وجدنا قطر خارج التحالف العربي ورأينا قناة «الجزيرة»، العربية والإنجليزية معًا، فجأة تتمتع بحرية أكبر في إدانة ما يجري في اليمن. أدرك ذلك جيدًا بعد تجربتي مع موقع «الجزيرة» الإنجليزي، فقد كتبتُ مقالًا قبل أزمة قطر انتقد فيه جميع أطراف الصراع، بما فيها السعودية وحصلت على موافقة مبدئية للنشر من قِبل محرري، ثم بعد أيام وصلني إيميل آخر يُخبرني بأن مقالي لن ينشر بأوامر من القسم التحريري الأعلى. أنا متأكدة أني كنتُ غير منحازة لأي طرف في المقال، ولكني فسرتُ رفض النشر بأن قطر كانت جزءًا من التحالف العربي بقيادة السعودية ولم تُرد أن تزعج حليفتها السعودية وقتها.

وبالتالي اعتقد أن أزمة قطر هي أفضل شيء حصل مع الأزمة الإنسانية في اليمن. الدور الإعلامي الذي تلعبه «الجزيرة» اليوم من خلال تغطيتها المكثفة، وهي الوسيلة الإخبارية الأكثر شهرة في العالم العربي، وهي الأكثر مشاهدة في الشرق الأوسط من قِبل جمهور المجتمع الدولي، فبالتالي لها دور في خلق تأثير كبير على الرأي العام العالمي.

العامل الآخر يرجع لتفاقم الأزمة الإنسانية على ضوء الحصار الشامل، منذ الشهر الماضي، من قِبل السعودية بعد الصاروخ «اليتيم» الذي تمّ إطلاقه من قِبل الحوثيين صوب مطار الرياض، فقامت القيامة ولم تقعد. بكل الأحوال كون أكبر أزمة إنسانية في العالم في اليمن اليوم، يشكل خزي وفشل للنظام الدولي الإنساني والأمني.

مدى مصر: لكن ما تقييمك لغياب العمق عن التغطيات الإعلامية لأحداث اليمن؟

أفراح: اعتقد أن السبب الرئيسي في قلة التحليل السياسي لمجريات الحرب هو أنها غير مريحة لأطراف دولية عديدة. وعلى ذِكر هذه النقطة، أُريد أن أشير إلى موقع «مجلة صنعاء» التي أنشأتها مع عدد من الكُتّاب اليمنيين بشكل مستقل وتطوعي، ولا زلنا نعمل على تطويرها. وهدفنا هو إثراء المحتوى الإلكتروني بمحتوى يمني أكثر، وبعيد عن الاستقطاب السياسي.

مدى مصر: لماذا لا تظهر حلول قريبة في الأفق للأزمة اليمنية؟

أفراح: بالرغم من أن الحرب في اليمن بدأ بالأساس كحرب أهلية، لكنها اليوم أقرب إلى حرب دولية، وعليه يتوقف الحل بيد هذه الأطراف الدولية، التي لا تعمل حتى الآن على إيجاد حل سلمي سياسي. وهناك عدد من الأفراد الذين يسعون إلى إيجاد حلول لإنهاء الصراع، وفي نفس الوقت يبدو المبعوث الخاص من الأمم المتحدة لليمن، إسماعيل ولد الشيخ لا يحرك ساكنًا. مَرّ الآن ما يقارب سنة ونصف منذ آخر مرة عقدت فيها أي جلسة مفاوضات سلام. هذا المبعوث ليس له نشاط إعلامي يرصد لنا فيه تطورات عمله، بالمقارنة بنشاط المبعوث الأممي في سوريا، على سبيل المثال.  ومن العجيب أن المبعوث الأممي لليمن يحظر العديد من منتقديه على صفحته في «تويتر».

أثناء زيارتي الشهر الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية وإجراء العديد من اللقاءات لخلق شبكة مناصرة مع الشعب اليمني كنتُ أشدد على أهمية استبدال هذا المبعوث الأممي لليمن، وإدراج شخص آخر يعمل على تعزيز وسائل حل النزاع في اليمن مع مراعاة الديناميكية المحلية لبنية المجتمع اليمني، كأن تُدرج القيادات القبلية، والساسة، ورجال الأعمال اليمنيين، وهكذا. هذه المجموعة هي التي لها الكلمة الأخيرة في إنشاء ما يشبه خطة سلام.

مدى مصر: في ظل الأوضاع الراهنة برأيك ما الحل؟

أفراح: لابد أن يكون هناك فريق محلي إلى جانب آليات الأمم المتحدة تعمل معًا حتى تجد حلًا. الواقع السياسي اليمني الجديد اختلف تمامًا عما كان عليه في بداية الحرب. لابد من حلول جديدة وفقًا للمعطيات الجديدة.  مثل أن تكون هناك مبادرة بجهد ذاتي مَن أي قائد دولي أو إقليمي يقترح من خلالها خارطة طريق. سبق أن قدم جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية السابق، في العام الماضي مبادرة، ولكنها فشلت. نريد المزيد من المبادرات. للأسف حاليًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وزوج ابنته جاريد كوشنر يعتقدان أن السعودية تقوم بالصواب في حربها باليمن (من خلال صفقات الأسلحة الهائلة بينهما) وتاركين لها كامل حرية التصرف في اليمن ولهذا نريد مبادرات أخرى من قادة دوليين آخرين.

مَن باستطاعته أن يقدم مبادرة جديدة؟ هذا هو السؤال الصعب. المشكلة هنا تكمن في أن جماعة الحوثيين مُصرّة على الحصول على ضمان بأن لها تمثيل في أي نظام سياسي جديد، فيما تُريد السعودية ضمان أنه لا مكان لجماعة الحوثيين في أي صفقة سياسية أو نظام سياسي جديد. والإشكالية في المبعوث الأممي لليمن أنه عاجز عن التوفيق بين طلبات الطرفين لأنه في أوقات كثيرة منحاز لطرف التحالف. اليمن يحتاج لهذا الشخص الذي يستطيع أن يجد المنطقة الرمادية بين طلبات الطرفين.

مدى مصر: هل العنف صعّد وتيرة الاستقطاب السياسي؟

أفراح: بالنسبة لجماعة «الحوثيين»، الانتماء الوطني قائم على إطار عقائدي طائفي. فنجد الاختلافات الطبقية في اليمن مبنية على أُسس العرق والمناطقية. تندرج جماعة الحوثيين من شمال اليمن ومن شجرة عائلة الرسول أو كما يطلق عليها فئة «السادة». في العادة لا يتزوج أعضاء هذه الفئة من أفراد خارجها حتى يحافظوا على «دَم الرسول». وفي العرف اليمني هذه الطبقة هي أعلى منزلة من غيرها. بعدها هناك طبقة القبائل والقضاة. للأسف بهذه الصورة يتجلى النظام العنصري الإقصائي في اليمن.

بعدها نجد الطبقة الدنيا ويندرج فيها الأفراد والعائلات التي تعمل في مهن تعتبر تقليديًا دنيوية، كالمغنيين، الجزارين، حلاقين الشَعر، ثم طبقة المهمشين، وهم من أصول أفريقية ذوي بشرة سوداء، ثم إشكالية المناطقية تتجلى في الفروقات في الميزات والحقوق بين مَن هم في الشمال والجنوب والغرب.

وعلى هذه الخطوط يتشكل الاستقطاب السياسي والاجتماعي في اليمن. وزادت الحرب «من الطين بلة»، واليوم هناك فريق مع جبهة السعودية ضد الحوثيين، والعكس صحيح. والفكرة السائدة اليوم هي: إذا أنت لست معنا فأنت ضدنا. ومع كل هذا، ومع طول الحرب هناك ديناميكية مستمرة وتغيير دائم في المواقف، وفقًا للمعطيات المتغيرة أو فظاعة الأعمال الوحشية القائمة أو مراعاة المصالح في مجريات الحرب المتسارعة. كما أن هناك عدد من اليمنيين ترك اليمن ليعيشوا في المهجر ولم يعد لليمن، وهذا أيضًا يؤثر على دورهم وطرحهم في الخارج.

الجاليات اليمنية في المهجر منقسمة بناءً على ما يحدث على الأرض داخل اليمن. هناك تنظيمات وتحالفات في الخارج لها تأثير كبير في تشكيل الرأي العام الدولي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. وفي رأيي هذا التأثير للأسف يغلب عليه السلبية. عدد قليل من المنظمات اليمنية في المهجر تتخذ الحياد والدعوة للسلام والدعوة للإغاثة الإنسانية أو العمل السياسي المنظم. مَن يقوم بذلك أقلية. هذا أيضًا عامل آخر في استمرارية الحرب. أتمنى لو باستطاعتي أن أثبت ذلك من خلال بحوث وإحصائيات حول كيف أن التجمعات في المهجر لها تأثير كارثي في تطور الحرب، ولكن لا يسعني الوقت حاليًا. لا شك من أن دور الجاليات خطير بسبب التأثير الذي باستطاعتهم خلقه.

مدى مصر: هل نفهم من حديثك أن المجتمع اليمني مستقطب بشكل كامل؟

أفراح: النزاع في اليمن غيّر مفاهيم الهوية اليمنية بشكل جذري، فلم يعد المواطن اليمني يرى الآخر بالعين نفسها أو المفهوم نفسه لما كان عليه الوضع قبل الحرب. بالنسبة لي هويتي اليمنية متأثرة جدًا بالخليط العرقي الذي أتحلى به، فأنا لي أصول إثيوبية إلى جانب كوني يمنية. أجدادي من اليمن، ولكنهم نزحوا إلى إثيوبيا، في خمسينيات القرن الماضي، في ظروف مشابهة لما يحدث اليوم في اليمن من نزاع ومجاعة وأمراض. استقر أجدادي هناك وكان لهم زيجات بإثيوبيات، وبيت، وأطفال وهكذا. وعندما اندلعت الحرب في إثيوبيا في نهاية سبعينيات القرن الماضي عادوا إلى اليمن واستقروا، مرة أخرى، به. وعليه فإن الهوية اليمنية بالنسبة لي أكبر من جغرافية محددة. فهويتي متأثرة بثقافات عديدة، ولا يهمني مَن هو قائد اليمن. البلد بالنسبة لي أكبر من حصرها في هوية زعيم واحد؛ سواءً كان الحوثي أو صالح أو هادي أو غيرهم. كذلك عامل تعدد الثقافات في هوية  قادة الرأي في اليمن من النشطاء أو الصحافيين باعتقادي لعب دورًا كبيرًا في نشاطهم. باعتقادي أن أغلب النشطاء في الشأن اليمني من اليمنيين الذين يدعون إلى الديمقراطية أو التغيير هم مَن يتحلون بهويات متعددة، فمثلًا حتى التفاصيل البسيطة بأن يكون لك والد من الشمال وأم من الجنوب قد تؤثر كثيرًا على نظرتك لمعنى الهوية اليمنية والانتماء الوطني.

مدى مصر: برأيك ما الدور الذي تلعبينه وأنتِ خارج اليمن من خلال عملك الصحفي؟

أفراح: أتذكر أن جوانب من هذا السؤال كان في طرح (رئيسة تحرير مدى مصر) لينا عطالله أثناء حوار لها في ندوة مؤخرًا. فقد كانت لينا تسأل: كيف باستطاعة الصحفي أن يكتب القصة عن مكان ما رغم البعد الجغرافي؟ فكرت بهذا السؤال طويلًا. أدرك أن اليمنيين اليوم مرغمين على العيش في الخارج، الكثير منهم في نزوح ولجوء في الدول المجاورة لليمن ولهذا أفكر كثيرًا في الانتقال للعيش في الشرق الأوسط، وأن أكون أقرب لليمن وللجاليات اليمنية في الدول العربية. أريد أن أجد الإجابة على سؤال لينا أن أقول كيف أن قصتي، كصحفية في نزوح، هي جزء من المكون الجماعي لحالة النزوح واللجوء التي يشهدها اليمنيين جميعًا. وفي الأخير، أريد أن أثبت أننا كصحفيين نوثق، ونكتب كشهود عيان على ما يجري من مآسي في أوطاننا.

نعمل نحن الصحفيين اليمنيين اليوم في ظروف استثنائية. الحياة أصبحت غير قابلة للعيش في اليمن، سواء على صعيد الوضع الإنساني أو وضع حرية التعبير. جماعة «الحوثيين» اليوم هم أكبر منتهك لحرية الصحافة في العالم، بعد «الدولة الإسلامية»، في تقرير «مراسلون بلا حدود» العام الماضي. لا يوجد اليوم أي مساحة لإعلام مستقل في اليمن.

اعتقد في ظروف صعبة كهذه، لابد علينا كصحفيين أن نتوخى الحذر، ونأخذ احتياطاتنا، بحيث نستمر في نشاطنا الصحفي، ولكن عن بُعد. أتذكر جيدًا الليلة التي بدأت فيها «عاصفة الحزم»، الحملة العسكرية ضد اليمن بقيادة السعودية في مارس 2015. في اتصال هاتفي مع أهلي في صنعاء كنتُ مَن نقلت الخبر لهم لأول مرة عن الحرب، وكان ردهم: «إذا هذا هو سبب أصوات الانفجارات.. نحن هنا في ظلام دامس لا ندري ماذا يحدث».

أفراح ناصر، صحفية يمنية مستقلة ومدونة في قضايا حقوق الإنسان، مقيمة في السويد ( في زيارة لمصر حاليًا).  حائزة على الجائزة الدولية لحرية الصحافة 2017 من قِبل منظمة لجنة حماية الصحفيين.

 نُشر اللقاء بالإنجليزية  بتاريخ 10 ديسمبر 2017.